وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ فَإِذَا خَفِيَ عَلَيْهِمُ الْحَرْفُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِلُغَتِهِمْ رَجَعُوا إِلَى دِيوَانِهِمْ فَالْتَمَسُوا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ ثُمَّ إِنْ كَانَ مَا تَضَمَّنَهُ أَلْفَاظُهَا يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ كَفَى فِيهِ الِاسْتِشْهَادُ بِالْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أن يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشِّعْرِ
وَيَنْبَغِي الْعِنَايَةُ بِتَدَبُّرِ الْأَلْفَاظِ كَيْ لَا يَقَعَ الْخَطَأُ كَمَا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْكِبَارِ فَرَوَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ ساهون} فَقَالَ هُوَ الَّذِي يَنْصَرِفُ عَنْ صِلَاتِهِ وَلَا يَدْرِي عَنْ شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ قَالَ الْحَسَنُ مَهْ يَا أَبَا الْعَالِيَةِ لَيْسَ هَكَذَا بَلِ الَّذِينَ سَهَوْا عَنْ مِيقَاتِهِمْ حَتَّى تَفُوتَهُمْ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: {عَنْ صَلَاتِهِمْ} فَلَمَّا لَمْ يَتَدَبَّرْ أبو العالية حرف في وعن تَنَبَّهَ لَهُ الْحَسَنُ إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا فَهِمَ أَبُو الْعَالِيَةِ لَقَالَ فِي صَلَاتِهِمْ فَلَمَّا قَالَ عَنْ صَلَاتِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذَّهَابُ عَنِ الْوَقْتِ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عن ذكر الرحمن} أَنَّهُ مِنْ عَشَوْتُ أَعْشُو عَشْوًا إِذَا نَظَرْتُ وَغَلَّطُوهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ يُعْرِضْ وَإِنَّمَا غَلِطَ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَشَوْتُ إِلَى الشَّيْءِ وَعَشَوْتُ عَنْهُوَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَصْبَحَ فؤاد أم موسى فارغا} قَالَ فَارِغًا مِنَ الْحُزْنِ لِعِلْمِهَا أَنَّهُ لَمْ يَغْرَقْ وَمِنْهُ دَمٌ فَرَاغٌ أَيْ لَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ أَخْطَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَعْنَى لَوْ كَانَ قَلْبُهَا فارغا من الحزن عليه لما قال: {لولا أن ربطنا على قلبها} لِأَنَّهَا كَادَتْ تُبْدِي بِهِ
وَهَذَا الْبَابُ عَظِيمُ الْخَطَرِ وَمِنْ هُنَا تَهَيَّبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ وَتَرَكُوا الْقَوْلَ فِيهِ حَذَرًا أَنْ يَزِلُّوا فَيَذْهَبُوا عَنِ الْمُرَادِ وَإِنْ كَانُوا عُلَمَاءَ بِاللِّسَانِ فُقَهَاءَ فِي الدِّينِ وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ وَهُوَ إِمَامُ اللُّغَةِ لَا يُفَسِّرُ شَيْئًا مِنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تعالى: {شغفها حبا} فَسَكَتَ وَقَالَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلًا لِبَعْضِ الْعَرَبِ فِي جَارِيَةٍ لِقَوْمٍ أَرَادُوا بَيْعَهَا أَتَبِيعُونَهَا وَهِيَ لَكُمْ شَغَافٌ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا وَلِهَذَا حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَعَلُّمِ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ وَطَلَبِ معاني العربية
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ الْعَالِمِ بِحَقَائِقِ اللُّغَةِ وَمَوْضُوعَاتِهَا تَفْسِيرُ شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَا يَكْفِي فِي حَقِّهِ تَعَلُّمُ الْيَسِيرِ مِنْهَا فَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ وَالْمُرَادُ الْمَعْنَى الْآخَرُ وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَفْصَحِ قُرَيْشٍ سُئِلَ أبو بكر عن الأب فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كَلَامِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ وَقَرَأَ عُمَرُ سُورَةَ عَبَسَ فَلَمَّا بَلَغَ الْأَبَّ قَالَ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فما الأب ثم قال لعمرك يابن الْخَطَّابِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عند ربنا} وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ فَمَا الْأَبُّ ثُمَّ قَالَ مَا كُلِّفْنَا أَوْ مَا أُمِرْنَا بِهَذَا
وَمَا ذَاكَ بِجَهْلٍ مِنْهُمَا لِمَعْنَى الْأَبِّ وَإِنَّمَا يُحْتَمَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْأَبَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي لُغَتِهِمَا أَوْ فِي لُغَاتٍ فَخَشِيَا إِنْ فَسَّرَاهُ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَهُ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ
الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْأَبِّ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ فَقِيلَ مَا تَرْعَاهُ الْبَهَائِمُ وَأَمَّا مَا يَأْكُلُهُ الْآدَمِيُّ فَالْحَصِيدُ وَالثَّانِي التِّبْنُ خَاصَّةً وَالثَّالِثُ كُلُّ مَا نَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَالرَّابِعُ مَا سِوَى الْفَاكِهَةِ وَالْخَامِسُ الثِّمَارُ الرَّطْبَةُ وَفِيهِ بَعْدٌ لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ تَدْخُلُ فِي الثِّمَارِ الرَّطْبَةِ وَلَا يُقَالُ أُفْرِدَتْ لِلتَّفْصِيلِ إِذْ لَوْ أُرِيدُ ذَلِكَ لتأخر ذكرها نحو {فاكهة ونخل ورمان}
وَالسَّادِسُ أَنَّ رَطْبَ الثِّمَارِ هُوَ الْفَاكِهَةُ وَيَابِسَهَا هُوَ الْأَبُّ وَالسَّابِعُ أَنَّهُ لِلْأَنْعَامِ كَالْفَاكِهَةِ لِلنَّاسِ
وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ عُمَرَ غَيْرَ مَا سَبَقَ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خَفِيَ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ وَإِنْ شُهِرَ كَمَا خَفِيَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَى فاطر السموات والثاني تَخْوِيفَ غَيْرِهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلتَّفْسِيرِ بِمَا لَا يَعْلَمُ كَمَا كَانَ يَقُولُ أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا شَرِيكُكُمْ يُرِيدُ الِاحْتِرَازَ فَإِنَّ مَنِ احْتَرَزَ قَلَّتْ روايته
اسم الكتاب: |
المستطرف في كل فن مستظرف |
المؤلف: |
شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي أبو الفتح |
الفن: |
الأدب والبلاغة |
عدد المجلدات: |
1 |
للاطلاع على الكتاب إليكم الرابط: |
http://elibrary.mediu.edu.my/books/DRM2622.pdf |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق