تكلم عن فرار المسلمين من الكفار، وماذا يصنع من ألقي في مركبهم نار؟
ج: لا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين، ويحرم فرار جماعة من مثليهم؛ لقوله تعالى: { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ } وهذا أمر بلفظ الخبر؛ لأنه لو كان خبرًا بمعناه لم يكن تخفيفًا، ولوقع الخبر بخلاف المخبر، والأمر يقتضي الوجوب.
وقال ابن عباس: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر، ويلزمهم الثبات إن ظنوا التلف؛ لقوله تعالى: { إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ } ولأنه - صلى الله عليه وسلم - عد الفرار من الكبائر، ففي «الصحيحين» عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اجتنبوا السبع الموبقات»، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات».
ومن قصد بفراره التحيز إلى فئة، أو التحرف للقتال أبيح له؛ لأن الله تعالى قال: { إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } ينضم إليهم ليقاتل.
ومعنى التحرف للقتال أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن.
مثل أن يكون في موضع ضيق، فينحاز إلى سعة، أو من معطشة إلى ماء، أو من نزول إلى علو، أو من استقبال شمس أو ريح إلى استدبارها، أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم، أو تنفرد خيلهم من رجالتهم، أو ليجد فيهم فرصة أو ليستند إلى جبل، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب.
وقد روي عن عمر أنه كان يومًا في خطبته إذ قال: يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم الذئب من استرعاه لغنم، فأنكرها الناس، فقال علي - رضي الله عنه - : دعوه، فلما نزل سألوه عما قال لهم، فلم يعترف به، وكان بعث إلى ناحية العراق جيشًا لغزوهم، فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم الجمعة، فظفر عليهم، فسمعوا صوت عمر فتحيزوا إلى الجبل، فنجوا من عدوهم وانتصروا عليهم.
وسواء قربت الفئة أو بعدت؛ لما روى ابن عمر أنه كان في سرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحاص المسلمون حيصة عظيمة وكنت فيمن حاص، فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بغضب من الله، فجلسنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا، فقلنا له: نحن الفرارون، فقال: «لا، بل أنتم العكارون، أنا فئة كل مسلم» أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن.
و عن عمر أنه قال: أنا فئة كل مسلم، وقال: لو أن أبا عبيدة تحيز إليّ لكنت له فئة، وكان أبو عبيدة بالعراق، وإن زادوا على مثليهم فلهم الفرار.
قال ابن عباس: لما نزلت: { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } وشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم أن يفر واحد من عشرة، ثم جاء التخفيف، فقال: { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ } الآية، فلما خفف عنهم من العدد، نقص من الصبر بقدر ما خفف من القدر، رواه أبو داود.
وإذا خشي الأسر فالأولى أن يقاتل حتى يقتل ولا يسلم نفسه للأسر؛ لأنه يفوز بالثواب والدرجة الرفيعة ويسلم من تحكم الكفار عليه بالتعذيب والاستخدام والفتنة.
فإن استأسر جاز؛ لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عشرة عينًا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، فنفرت إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد، فقالوا لهم: أنزلوا فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق، أن لا نقتل منكم أحدًا، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة مشرك فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصمًا مع سبعة معه، ونزل إليهم ثلاثة على العهد والميثاق منهم: خبيب وزيد بن الدثنة، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم، فربطوهم بها. متفق عليه. فعاصم أخذ بالعزيمة، وخبيب وزيد أخذا بالرخصة، وكلهم محمود غير مذموم ولا ملوم.
والفرار أولى من الثبات إن ظنوا التلف بتركه، وإن ظنوا الظفر، فالثبات أولى من الفرار، بل يستحب الثبات لإعلاء كلمة الله، ولم يجب لأنهم لا يأمنون العطب، كما لو ظنوا الهلاك في الفرار والثبات، فيستحب الثبات، وأن يقاتلوا ولا يستأسروا؛ فإن جاء العدو بلدًا فلأهله التحصن معهم.
وإن كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد أو قوة، ولا يكون ذلك توليًا ولا فرارًا؛ إنما التولي بعد اللقاء، وإن لقوهم خارج الحصن، فلهم التحيز إلى الحصن ليلحقهم مدد وقوة؛ لأنه بمنزلة التحرف للقتال، أو التحرف لفئة، وإن غزوا فذهبت دوابهم لشروط أو قتل، فليس ذلك عذرًا في الفرار، إذ القتال ممكن بدونها، وإن فروا قبل إحراز الغنيمة، فلا شيء لهم إن أحرزها غيرهم.
وإن قالوا أنهم فروا متحرفين للقتال فلا شيء لهم أيضًا؛ لأنهم لم يشهدوا الواقعة حال تقضي الحرب والاعتبار به، وإن ألقي في مركبهم نار، فاشتعلت فعلوا ما يرون فيه السلام؛ لأن حفظ الروح واجب، وغلبة الظن كاليقين في أكثر الأحكام، فهنا كذلك من المقام أو الوقوع في الماء ليتخلصوا من النار؛ فإن شكوا أو تيقنوا التلف فيهما، أو ظنوا السلامة فيهما ظنًا متساويًا خيروا.
من نظم الفرائد مما يتعلق بالجهاد
وإن جهاد الكفر فرض كفاية ... ويفضل بعد الفرض كل تعبد
لأن به تحصين ملة أحمد ... وفضل عموم النفع فوق المقيد
فلله من قد باع لله نفسه ... وجود الفتى في النفس أقصى للتجود
ومن يغز إن يسلم فأجر ومغنم ... وإن يرد يظفر بالنعيم المخلد
وما محسن يبقي إذا مات رجعة ... سوى الشهدا كي يجهدوا في التزيد
لفضل الذي أعطوا ونالوا من الرضى ... يفوق الأماني في النعيم المسرمد
كفى أنهم أحيا لدى الله روحهم ... تروح بجنات النعيم وتغتدي
وغدوة غاز أو رواح مجاهد ... لخير من الدنيا بقول محمد
يكفر عن مستشهد البر ما عدا ... حقوق الورى والكل في البحر فاجهد
وقد سُئل المختار عن حر قتلهم ... فقال يراه مثل قرصة مفرد
كلوم غزاة الله ألوان نزفها ... دم وكمسك عرفها فاح في غد
ولم يجتمع في منخر المرء يا فتى ... غبار جهاد مع دخان لظى اشهد
كمن صام لم يفطر وقام فلم يرم ... جهاد الفتى في الفضل عند التعدد
لشتان ما بين الضجيع بفرشه ... وساهر طرف ليلة تحت أجرد
يدافع عن أهل الهدى وحريمهم ... وأموالهم النفس والمال واليد
ومن قاتل الأعدا لإعلاء ديننا ... فذا في سبيل الله لا غير، قيد
ويفضل غزو البحر غزو مفاوز ... ومع فاجر يحتاط فاغزو كأرشد
على الذكر الحر المكلف فرضه ... صحيحًا بالآت وزاد لبعد
بأمواله أو بيت مال وحاجة العيال ... إلى عود وإيفاء ملدد
وأدنى وجوب الغزو في العام مرة ... وإن يدع للتأخير عذر ليمهد
وعين على المستنفرين وحضرة الصـ ... ـفوف ومحصور بثغر ممدد
ولو قيل بالتعيين في حق حاضر ... الحصون من الإسلام لما أبعد
وعمن تعين قيمًا لعياله ... وأمواله حتم النفير ليبعد
على كل قوم غزو جيرانهم من ... العدو وإمداد الضعاف بمسعد
ويحسن تشييع الغزاة لراجل ... وحل بلا كره تلقيهم اشهد
وأهل الكتاب والمجوس إن تشا اغزهم ... بغير دعاء إن بإبلاغهم بدي
ويغزون حتى يسلموا أو يسلموا ... صغارًا إلينا جزية الذل عن يد
وغير أولى فليدع قبل قتاله ... إلى أشرف الأديان دين محمد
وعرفه بالبرهان حتم اتباعه ... ولا تقبلن منه سواه بأوطد
وإن رباط المرء أجر معظم ... ملازم ثغر للقا بالتعدد
ويجري على ميت به أجر فعله ... كحي ويؤمن بافتنان بملحد
ولا حد في أدناه بل أربعون في التمام ... ويعطي أجر كل مزيد
وأفضله ما كان أخوف مركزًا ... وأقرب من أرض العدو المنكد
وذلك أسنى من مقام بمكة ... وفي مكة فضل الصلاة فزيد
ومن لم يطق في أرض كل ضلالة ... قيامًا وإظهارًا لدين محمد
فحتم عليه هجرة مع أمنة ... الهلاك ولو فردًا وذات تعدد
بلا محرم مشيًا ولو بعد المدى ... لفعل الصحابيات مع كل مهتد
ويشرع مع إمكان إظهار دينه ... وأحكامها حتى اليامة أبد
ويعذر ذو عجز لضعف وسقم أو ... مخافة فساق وفقد تزود
وعن نفله اصدد وذأب مسلم أو ... والأميمة مع حراته في مبعد
كذا امنع مد ينادون رهن وكافل ... الوفاء وكاف في وفاء المعدد
بلا إذن كل إثم إن يهد والد ... ويرجع ذو إذن ولم يجب اردد
ولا طاعة في ترك فرض ومن طرا ... به العذر فليرجع بغير تقيد
ولا إذن في فرض كجد وجدة ... ولا زوجة إلا الذين كبعّد
وإن قياس الحكم إيجابه على النسا ... في حضور الصف دفعًا وأبعد
ومن يستنب في الغزو يمنع غزوه ... له وبأجر إن يكن فليردد
ومن مثلي الإسلام حرم فرارهم ... لغير صلاح الحرب أو نحن مسعد
ولو شاسع المثوى ولو شرطوا استوا ... سلاح ومركوبيهما لم أبعد
وأولى لمن يخشى الأسارى قتالهم ... إلى القتل، واستسلامه احلل بأوكد
وإن يزد الكفار مع ظن قهرهم ... فندب ثبوت الناس واحتم بمبعد
والأولى إذا ظنوا الهلاك بمكثهم ... فرارًا وجوز عكس كل لقصد
وليس فرارًا مدخل الحصن مطلقًا ... ومن قبل حوز الغنم من فر فاصدد
وإن تلق نار في سفينتهم أتوا ... الأهم وإن شاءوا أقاموا بأوكد
منقول من :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق