فصل: المحذور الثاني
وأما المحذور الثاني وهو طوافها مع الحيض والطواف كالصلاة فجوابه من وجوه أحدها أن يقال لا ريب أن الطواف تجب فيه الطهارة وستر العورة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "لا يطوف بالبيت عريان
ص -22-…وقال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وفي السنن مرفوعا وموقوفا الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ولا ريب أن وجوب الطهارة وستر العورة في الصلاة آكد من وجوبها في الطواف فإن الصلاة بلا طهارة مع القدرة باطلة بالاتفاق وكذلك صلاة العريان وأما طواف الجنب والحائض والمحدث والعريان بغير عذر ففي صحته قولان مشهوران وإن حصل الاتفاق على أنه منهى عنه في هذا الحال بل وكذلك أركان الصلاة وواجباتها آكد من أركان الحج وواجباته فإن واجبات الحج إذا تركها عمدا لم يبطل حجه وواجبات الصلاة إذا تركها عمدا بطلت صلاته وإذا نقص من الصلاة ركعة عمدا لم تصح ولو طاف ستة أشواط صح ووجب عليه دم عند أبي حنيفة وغيره ولو نكس الصلاة لم تصح ولو نكس الطواف ففيه خلاف ولو صلى محدثا لم تصح صلاته ولو طاف محدثا أو جنبا صح في أحد القولين وغاية الطواف أن يشبه بالصلاة وإذا تبين هذا فغاية هذه إذا طافت مع الحيض للضرورة أن تكون بمنزلة من طافت عريانة للضرورة فإن نهى الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله عن الأمرين واحد بل الستارة في الطواف آكد من وجوه أحدها أن طواف العريان منهى عنه بالقرآن والسنة وطواف الحائض منهى عنه بالسنة وحدها الثاني أن كشف العورة حرام في الطواف وخارجه الثالث أن طواف العريان أقبح شرعا وعقلا وفطرة من طواف الحائض والجنب فإذا صح طوافها مع العري للحاجة فصحة طوافها مع الحيض للحاجة أولى وأحرى ولا يقال فيلزمكم على هذا أن تصح صلاتها وصومها مع الحيض للحاجة لأنا نقول هذا سؤال فاسد فإن الحاجة لا تدعوها إلى ذلك بوجه من الوجوه وقد جعل الله سبحانه صلاتها زمن الطهر مغنية لها عن صلاتها في الحيض وكذلك صيامها وهذه لا يمكنها التعويض في حال طهرها بغير البيت وهذا يبين سر المسألة وفقهها وهو أن الشارع قسم العبادات بالنسبة إلى الحائض إلى قسمين قسم يمكنها

التعوض
ص -23-…عنه في زمن الطهر فلم يوجبه عليها في الحيض بل أسقطه إما مطلقا كالصلاة وإما إلى بدله زمن الطهر كالصوم وقسم لا يمكنها التعوض عنه ولا تأخيره إلى زمن الطهر فشرعه لها مع الحيض أيضا كالإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه ومن هذا جواز قراءة القرآن لها وهي حائض إذ لا يمكنها التعوض عنها زمن الطهر لأن الحيض قد يمتد بها غالبه أو أكثره فلو منعت من القراءة لفاتت عليها مصلحتها وربما نسيت ما حفظته زمن طهرها وهذا مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولى الشافعي والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع الحائض من قراءة القرآن وحديث لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن لم يصح فإنه حديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث فإنه من رواية إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة وسمعت محمد بن إسماعيل يقول إن إسماعيل بن عياش يروى عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير كأنه يضعف روايته عنهم فيما ينفرد به وقال إنما هو حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام انتهى وقال البخاري أيضا إذا حدث عن أهل بلده فصحيح وإذا حدث عن غيرهم ففيه نظر وقال على بن المديني ما كان أحد أعلم بحديث أهل الشام من إسماعيل بن عياش لو ثبت في حديث أهل الشام ولكنه خلط في حديث أهل العراق وحدثنا عنه عبد الرحمن ثم ضرب على حديثه فإسماعيل عندي ضعيف وقال عبد الله بن أحمد عرضت على أبي حديثا حدثناه الفضل بن زياد الضبى حدثنا ابن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر مرفوعا لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن فقال أبي هذا باطل يعنى أن إسماعيل وهم وإذا لم يصح الحديث لم يبق مع المانعين حجة إلا القياس على الجنب والفرق الصحيح بينها

ص -24-…وبين الجنب مانع من الإلحاق وذلك من وجوه أحدها أن الجنب يمكنه التطهر متى شاء بالماء أو بالتراب فليس له عذر في القراءة مع الجنابة بخلاف الحائض والثاني أن الحائض يشرع لها الإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه مع الحيض بخلاف الجنب الثالث أن الحائض يشرع لها أن تشهد العيد مع المسلمين وتعتزل المصلي بخلاف الجنب وقد تنازع من حرم عليها القراءة هل يباح لها أن تقرأ بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال على ثلاثة أقوال أحدها المنع مطلقا وهو المشهور من مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد لأنها بعد انقطاع الدم تصير كالجنب الثاني الجواز مطلقا وهو اختيار القاضي أبي يعلى قال وهو ظاهر كلام احمد والثالث إباحته للنفساء وتحريمه على الحائض وهو اختيار الخلال فالأقوال الثلاثة في مذهب احمد فإذا لم تمنع الحائض من قراءة القرآن لحاجتها إليه فعدم منعها في هذه الصورة عن الطواف الذي هي أشد حاجة إليه بطريق الأولى والأحرى



سم الكتاب:
إعلام الموقعين عن رب العالمين
اسم المؤلف:
محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية 751هـ
دراسة وتحقيق:
طه عبد الرؤوف سعد
القسم:
اصول الفقه
الناشر:
مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، القاهرة 1388هـ/1968م
عدد المجلدات:
4
عدد الصفحات:
1501
لاطلاع على الكتاب إاليكم الرابط:
http://raqamiya.mediu.edu.my/BookRead.aspx?ID=312