الجمعة، 14 يونيو 2013
سلسلة قراءات فى تاريخ الاسلام والمسلمين
سلسلة قراءات فى تاريخ الاسلام والمسلمين- الأوضاع السياسية فى إقليم طرابلس
الأوضاع السياسية فى إقليم طرابلس فى ظل السيطرة الصقلية([1])
(540–553هـ/1145-1158م)
كان لانشغال أمراء المغرب بما دهمهم من بني هلال وبني سليم أثره في إهمال أمر صقلية([2])، حتى امتدت إليها سيطرة النورمان([3])، الذين عمدوا منذ استيلائهم عليها في سنة 484 هـ/ 1091 م([4]) إلى الهيمنة على البحر المتوسط، وقد اتخذ النورمان من صقلية نقطة للانطلاق على ما جاورهم من بلاد المسلمين([5]) بقصد التوسع السياسى والسيطرة على الملاحة بين ضفتى البحر المتوسط وخدمة الأهداف الدينية باسترداد الأراضى التى كانت للمسيحيين من قبل([6])، وقد امتدت هجماتهم إلى الجزر المجاروة مثل مالطة([7]) وقوصرة([8]) وكان ذلك آخر عهد السلطان الإسلامىبجزائر البحر([9]).
وكانت جزر البحر- صقلية وقوصرة – كالدرع يقى الشمال الإفريقى من غزوات النصارى والنورمان خاصة، فلما سقطت، تعرضت سواحله لغارات النورمان ([10]).
وأصبحت انطلاقاتهم منذ ذلك الحين نحو الشمال الإفريقي الخاضع لحكم المسلمين؛ ليأمنوا علي أنفسهم في جزيرة صقلية، إذ أن المغرب كان القوة الوحيدة التي تناجزهم فيها، وتعمل على طردهم منها منذ أتيح لهم السيطرة على الجزء الشمالى من صقلية في سنة 444هـ/ 1052م([11]) حتى تمكنوا من الاستيلاء على جزيرة جربة في سنة 530 هـ/ 1136 م([12]).
وفى سنة 536 هـ/ 1141 م أغار الأسطول النورمانى بقيادة جورجى الأنطاكى([13]) على مرسى المهدية، واستولى على ما كان راسيًا به من سفن([14])، ولم يزل يوالى عليها الغزو بأساطيله حتى استولى عليها([15]) سنة 543 هـ/1148م. وهذا يوضح أن فكرة الحروب الصليبية، والجهاد ضد المسلمين الذين وصفهم البابا أنوسنت الثانى بالكفرة وأنهم أعداء الله([16])، كان ميدانه الغرب الإسلامىقبل بلاد الشام([17]).
تلا ذلك الاستيلاء على مدن الساحل المغربى ذات الأهمية الاقتصادية والمواقع الاستراتيجية ومنها طرابلس، فلم يكن الوضع فى طرابلس بأحسن منه فى المهدية، فلا ريب أن طرابلس مثلها فى ذلك مثل غيرها من المدن الساحلية، ظلت متأثرة بحركة التخريب التى قام بها العربان منذ الغزو الهلالى، مما كان له أثره فى إضعاف حال المحارس الساحلية -التى أنشأها بنو الأغلب -حول طرابلس، وحافظ عليها الفاطمييون والصنهاجيون، فقد كانت طرابلس تحت حكم بنى خزرون قبل سقوطها فى يد النورمان أصحاب صقلية، وفى عهد آ خر أمرائهم محمد بن خزرون.
فلما علم رجار([18]) أن محمد بن خزرون وبطانته من بنى مطروح وهم فرع من بني هلال أمراء قابس([19]) خرجوا عن طاعة الحسن بن على([20]) وقومه، ومنعوا المغارم والجباية، طمع رجار فى الاستيلاء على طرابلس، وظن أنهم لا يقدرون على شيء، بسبب اختلافهم مع خلفاء المعز بن باديس وتفكك وحدتهم، فوجه إليها أسطولاً فى التاسع من ذى الحجة سنة 537 هـ/ 1143م "([21])، حاصرها، وعلّق النورمان الكلاليب فى سورها، ونقبوه حتى كادوا يدخلون المدينة، فاستنجد أهلها بالعرب، فأنجدوهم، فقوى بهم أهل البلد، وخرجوا إلى الأسطول، وحملوا عليه حملة منكرة، فانهزم النورمان هزيمة منكرة، وقتل منهم خلق كثير، ولحق الباقون بالأسطول، وتركوا أسلحتهم ودوابهم فنهبها العرب وأهل طرابلس([22])، ورجع الإفرنج إلى صقلية([23]).
وهكذا تمكنت طرابلس بفضل تكاتف أهلها مع العرب ضد الخطر الخارجى من صد الأسطول النورمانى، وإلحاق الهزيمة به فى المحاولة الأولى لغزوها، وبقى ابن خزرون مستقلاً بطرابلس يدير شئونها.
وظل أمل السيطرة على حوض البحر المتوسط وعلى بلاد المسلمين فى الشمال الإفريقى يراود رجار، فجهز أسطولاً مكونًا من مائتى سفينة تحت قيادة جورجى الأنطاكى لتوجيهه نحو طرابلس للثأر من الهزيمة فنهبوا وقتلوا ثم عادوا فى سنة 539 هـ/ 1145 م([24]). ويبدو أن مهمة هذه القوة لم تكن الاستيلاء على المدينة بقدر ما كان الهدف منها استكشاف أحوال طرابلس واستحكماتها
([1]) صِقِلِّيَّة: بثلاث كسرات وتشديد اللام، والياء أيضًا مشددة: مدينة على شاطئ بحر الروم الشمالى فيما يقابل إفريقية، ويبلغ اتساع البحر بينها وبين إفريقية فى أقرب نقطة مائة وأربعين ميلاً(تجتازها السفن فى يوم وليلة)، وبها عدة مدن وأنهار ومتنزهات غناء وثمار جيدة... انظر النويرى: نهاية ج24ص355؛ ياقوت الحموى: معجم البلدان ج3ص416-419؛ ابن غلبون: التذكار ص 11.
([2]) كان المسلمون قد بدءوا فتح صقلية سنة 212هـ/827م بالحملة التى قادها أسد بن الفرات فى عهد الأغالبة، واستمرت الحملات لفتح حصون الجزيرة حتى تم للمسلمين السيطرة عليها فى سنة 296هـ (انظر ابن الأثير الكامل: ج 5 ص 186؛ راجع د. محمود إسماعيل: الأغالبة، سياستهم الخارجية، مكتبة وراق الجامعة، فاس، الطبعة الثانية، 1978م، ص 163.
([3]) أرشيبالد: القوى البحرية ص375.
([4]) النويرى: نهاية ج24ص383؛ ابن أبى دينار: المؤنس ص86.
([5]) Scott: A history of the moorish empire in Europe V. II،III philadelphia، London 1904.
PP396-397.
وقارن أمارى: المكتبة العربية الصقلية، مكتبة المثنى، بغداد، 1857م ص278؛ ابن الأثير: الكامل ج8ص473؛ ابن عذارى: البيان ج1ص310-312.
([6]) Cambridge:Medieval History، England،1913 Vol5، PP174-177.
Setton:Ahistory Of the Crusades،London 1969،, PP6-25
([7]) تمكن المسلمون فى سنة 209هـ/824م من فتح جزيرة مالطة فى عهد الأغالبة، واستطاع رجار النومانى من انتزاع الجزيرة من المسلمين فى سنة 483هـ/1090م. انظر ابن الأثير: الكامل ج8ص465؛ حتى: تاريخ العرب ج2ص719.
([8]) فتح والى إفريقية عبد الرحمن بن حبيب جزيرة قوصرة المعروفة ببنترليه (Pantelleria) وظلت فى أيدى المسلمين حتى استولى عليها رجار النورمانى سنة 484هـ/1091م. انظر ابن الأثير: الكامل ج8ص476.
([9]) حسن حسنى عبد الوهاب: قصة جزيرة قوصرة العربية، المجلة التاريخية المصرية، العدد الثانى، 1949م ص 55. ولكن الأمر لم يستتب لهم بها إلا فى سنة 517هـ/1123م. الكامل ج9ص222.
([10]) أرشيبالد: القوى البحرية ص322، صابر دياب: سياسة الدول الإسلامية فى حوض البحر المتوسط من أوائل القرن الثاني الهجري حتى نهاية العصر الفاطمي، عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الأولى 1973م ص90؛ إحسان عباس: تاريخ ليبيا ص 173.
([11]) Cambridge:Op.Cit،Vol2، PP382،Vol4, P141.
وانظر: ابن الأثير: الكامل ج8ص300؛ النويرى:نهايةج24ص381.
([12]) ابن عذارى: البيان المغرب ج 1 ص 322؛ المقريزى: اتعاظ الحنفا ج 3 ص 158؛ ابن الأثير: ج9ص86 يذكرها فى سنة 529، وقارن النويرى: نهاية ج24ص245فى أحداث سنة 529هـ وقارن ابن خلدون: تاريخ ج 5 ص 237 (ويقول سنة ثلاث وخمسين). وعن هجمات النورمان لشمال إفريقية راجع راضى عبدالله عبدالحليم: التدخل النورمانى فى بلاد المغرب (509 – 558 هـ) مجلة المؤرخ المصرى، كلية الآداب، جامعة القاهرة، العدد 3 سنة 1989.
([13]) جورجى بن ميخائيل الأنطاكى: كان نصرانيًا هاجر من المشرق، وقد تعلّم اللسان العربى، وبرع فى الحساب، وتهذّب فى الشام بأنطاكية وغيرها، فاصطنعه تميم بن المعز، واستولى عليه وكان يحيى (بن تميم) يشاوره، فلما هلك تميم أغراه رجار ملك صقلية بالانضمام إلى بحريته فأعمل جورجى الحيلة للحاق برجار (فى صقلية)، فلحق به وحظي عنده، واستعمله على أسطوله، فلما اعتزم حصار المهدية بعثه لدرايته بعورات البلاد، مما أضر بالمسلمين. انظر بن خلدون ج 6 ص 191، شارل أندرية: تاريخ إفريقية الشمالية، ترجمة طلعت عوض، القاهرة،1968م، ص 141، Setton:Op.Cit P19
([14]) ابن الأثير: الكامل ج9ص325، ابن عذارى: البيان ج 1 ص 322؛ النويرى: نهاية ج29ص383؛ ابن أبى دينار: المؤنس ص93؛ ابن غلبون: التذكار ص 51؛ سعيد عاشور: بعض أضواء على العلاقات بين بيزا وتونس فى عصر الحروب الصليبية، مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة، مطبعة جامعة القاهرة سنة 1969م، المجلد 26 ج 1، 2، مايو – ديسمبر 1964 م ص 29 وما بعدها.
([15]) انظر التيجاني: الرحلة ص 337 – 341.
([16]) Stephenson، G.: Medieval history (Europe from the second to the sixteenth century) Harper and brotheres publishers، Newyork and London،1942 P341; Setton:Op.Cit P16 .
([17]) انظر ابن الأثير: الكامل ج6 ص13. فقد سبق لهم غزو بجاية سنة 428هـ كما ذكر أن استيلاء الإفرنج على طليطلة بالأندلس سنة 478هـ، وغزو زويلة سنة 480هـ وأن استيلائهم على صقلية وأطراف إفريقية سنة 484هـ، وأن خروجهم إلى أنطاكية ببلاد الشام كان سنة 491هـ بقيادة بوهيومند أخو رجار.
Setton: Op.Cit، PP21-22، Stephenson: Op. Cit، PP34-42.
([18]) هكذا وردت عند ابن الأثير: الكامل ج9ص13؛ ابن خلدون ج5، ص230؛ ابن أبى دينار: المؤنس ص93، وفى المنهل العذب: زجار ص 122، وفى رحلة التيجانى " لجار " ص 241.
([19]) ذكر الطاهر الزاوى أن محمد بن خزرون قرب منه مشيخة بنى مطروح لما لهم من المكانة والنفوذ فى طرابلس، وأسند إليهم رياسة الجند وتدبير الأمور، وأصبح لا يصدر إلا عن رأيهم. انظر تاريخ الفتح العربى فى ليبيا ص 203، وقارن الأنصاري: المنهل العذب ص119.
([20]) الحسن بن على بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن المنصور بن بلكين الصنهاجى: تولّى أمر المهدية بعد وفاة أبيه علىّ سنة 515 هـ / 1121 م، وكان غلامًا ابن اثنتى عشرة سنة، فقام بأمره مولاه صندل، ثم مات صندل وقام بأمره مولاه موفق. انظر ابن الأثير: الكامل ج9ص207؛ النويرى: نهاية ج24ص245، ابن خلدون: ج 6 ص 190 فخلع محمد بن خزرون طاعته، وناصره، بنو مطروح، وذلك عندما تكالب الصقليون للسيطرة على الشمال الإفريقى. انظر: المنهل العذب: الأنصارى ص 122.
([21]) ابن الأثير: الكامل ج9ص326؛ أبوالفدا: المختصر ج3ص16، ابن خلدون: العبر ج 5 ص 238؛ ابن أبى دينار: المؤنس ص93 ؛ ابن غلبون: التذكار ص 55، الأنصارى: المنهل العذب ص 122.
([22]) ابن خلدون: المصدر السابق نفسه؛ وقارن إتورى روسى: ليبيا ص 103؛
Setton: Op.Cit،P23 , Cambridge: Op.Cit،Vol5, P189.
([23]) وقد أوجز ابن عذارى محاولة النورمان الاستيلاء على طرابلس هذه فقال: وفى سنة 537 هـ خرج أسطول صاحب صقلية فضرب على مدينة طرابلس فخيبه الله " البيان ج 1 ص 322 وقارن أبو الفدا: المختصر ج3ص16، وقال عنها ابن أبى دينار: " وفى سنة 537 هـ نازل اللعين مدينة طرابلس فهزموه، ولم يتعلق منها بشىء " المؤنس ص 91؛ كامللو منفرونى: إيطاليا فى الأحداث البحرية الطرابلسية، ترجمة عمر البارونى، منشورات مركز جهاد الليبيين، ليبيا، الطبعة الأولى،1988م ص26.
([24]) ابن الأثير: الكامل ج9ص332؛ انظر أوبرتور يتيتانو: النورمانديون وبنوزيرى، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة مج 11 ط 1 مايو 1949 ص 188؛ السيد عبدالعزيز سالم: المغرب الكبير ج 2 ص 681، أحمد مختار العبادى: تاريخ البحرية الإسلامية، جامعة بيروت،1972م،ج 2 ص 216؛ شارل أندرية: تاريخ إفريقية ص 141.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق