الجمعة، 14 يونيو 2013

حياة البلاذري العامة

سلسلة قراءات فى تاريخ الاسلام والمسلمين- حياة البلاذري العامة حياة البلاذري العامة: لم تذكر المصادر التي ترجمت للبلاذري شيئًا عن أسرته، سوى أن جدّه كان يعمل للخصيب أمير مصر([1])، ولم تذكر شيئا عن والده وولده([2])، غير أنها ذكرت أنه من أهل بغداد([3]). ويمكن أن نستدل على تحديد نسبي لتاريخ مولده من خلال ما جاء في مصادر ترجمته، التي ذكرت أنه "مدح المأمون بمدائح"([4])، والمأمون كما هو معروف توفي سنة 218هـ([5]). وهذا يعنى أن البلاذري كان عمره في عهد المأمون يؤهّله لقول الشعر الذي يسمح له بمدح خليفة كالمأمون، وأنه قد تجاوز الثلاثين من عمره أو العشرين على أقل تقدير، وهذا يعنى أنه ولد ما بين سنة (170 – 180هـ). وهناك دليل آخر على صحّة ذلك من نقول البلاذري في كتابه جمل من أنساب الأشراف([6])، فقد ذكر أنه سمع من وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسى الكوفي (128 – 197)([7]). قال: "حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن عبد الله بن جعفر عن علىّ"([8]). فإذا صحّ سماع البلاذري من وكيع فيكون قد ولد البلاذري في العقد التاسع من القرن الثاني الهجري([9])، أو في آخره على أكثر تقدير، ويكون مولده في بغداد. أ – صلة البلاذري بخلفاء الدولة العباسية ورجالها: تظهر العلاقة الحسنة بين البلاذري وخلفاء الدولة العباسية من خلال مدحه للمأمون([10]) ت 218هـ، ومجالسته للمتوكل على الله (232 – 247هـ)([11])، وقد ذكره الصولى في ندمائه([12]) "فنراه في الإعذار العظيم الذي أقامه المتوكل لابنه المعتز مصدراً في بركوارا قصر الهناء - وهو من أعظم قصور المتوكل - مع البحتري وعلى بن الجهم والحسن بن الضحاك، وعلى بن رّبن الكاتب، ويعقوب بن السكيت وأبناء حمدون النديم"([13]). كما كان المتوكل من مصادر البلاذري قال: "وأخبرنى أمير المؤمنين المتوكل رحمه الله"([14])، بل كان البلاذري أحد العلماء المقربين الذين يستشيرهم المتوكل في أمور الدولة، فلقد أشار على المتوكل بتغيير تاريخ جباية الخراج خلافًا لما اقترحه إبراهيم بن العباس الصولى الذي كلّفه الخليفة بذلك، فاقتنع المتوكل بكلام البلاذري، وأمر باتّباع ما أشار به([15]). واتصل البلاذري بالمستعين([16]) ومدحه، فأجرى عليه الرزق وقصّته في مدح المستعين رواها ابن العديم والكتبي حكاية عن البلاذري ولما آلت الخلافة إلى المعتز([18]) عهد إلى البلاذري بتأديب ابنه عبدالله([19]). ولم تذكر المصادر شيئًا عن علاقة البلاذري بالمهتدي المقتول سنة 256 هـ والمعتمد المتوفى سنة 279. والظاهر أن البلاذري قد عانى في أواخر أيامه من ضيق ذات اليد، وتأخر أرزاقه وثقل دَيْنه، وهو كبير السنّ، فدخل على عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان وزيرًا للمعتمد من سنة 256 هـ فسأله العطاء، والبلاذري يحدثنا عن ذلك فيقول: "كان بيني وبين عبيد الله بن يحيى بن خاقان حُرْمة منذ أيام المتوكل وما كنت أكلّفه حاجةً لاستغنائي عنه، فنالتنى في أيام المعتمد على الله إضاقة، فدخلتُ إليه وهو جالسٌ للمظالم فشكوتُ إليه تأخّر رزقى، وثقل دينى، وقلتُ: إن عيبًا على الوزير – أعزه الله – حاجة مثلي في أيامه، وغضُّ طرْفه عنّى، فوقع لي ببعض ما أردت، وقال: أين حياؤك المانع لك من الشكوى على الاستبطاء؟ فقلت: غرْسُ البلوى يثمر ثمر الشكوى"([20]). ولكنّ عبيد الله حجبه إذ جاء إلى بابه مرة ثانية فهجاه البلاذري([21]). ثم لجأ البلاذري إلى أبي الصقر إسماعيل بن بلبل فمدحه، وكان قد تولّى الوزارة للمعتمد بعد عُبيد الله (أي من سنة 265 – وحتى سنة 277 هـ) وكتب إليه كتابًا حسنًا، وسأله أن يطلق له شيئًا من أرزاقه، فوعده ولم يفعل، فهجاه، ونعته باللئيم، وسمّى من يلجأ إليه بالذليل([22]). فلما تولّى أحمد بن صالح شيرزاد الوزارة للمعتمد بعد إسماعيل بن بلبل سنة 277 هـ، لجأ إليه البلاذري فتشاغل عنه، فهمّ أن يهجوه، فخاف وقضى حاجته([23])، كما هجا صاعدًا وزير المعتمد([24]). وهكذا وصل الحال بالبلاذري إلى هجاء الذين لا يجيزونه أو يمتنعون عن تلبية مطالبه مما جعلهم يبادرون إلى إجابته خوفًا من هجائه. ب – الأحداث العامة في عصر البلاذري: لقد عانت الخلافة العباسية تدهورًا سياسيًّا منذ أواخر القرن الثاني الهجري ومن أبرز مظاهر ذلك: الصراع بين الأمين والمأمون، وما رافق ذلك من حرب أهلية بين الأخوين، انتهت بقتل الأمين سنة 198. ونفوذ الأتراك في عهد المعتصم والواثق، والمتوكل، الأمر الذي أُدِّيَ إلى قتل الأخير من قبل ابنه محمد المنتصر سنة 247 هـ، وأصبح هناك خليفتان أحدهما ببغداد، وهو محمد المنتصر سنة 247، والثاني بسامراء وهو المستعين بالله، ومرت الخلافة العباسية بفترة عصيبة استمرت من سنة 247 وحتى سنة 256 هـ، شهدت حربا أهلية بين الأخوين المنتصر والمستعين وخلع المستعين بالله سنة 252 هـ، وقتل المعتز بالله سنة 255 هـ، وقتل المهتدي سنة 256 هـ ومشاكل أخرى منها حركة الزنج وحركات المعارضة العلوية، ونفوذ الأتراك([25])، وبالرغم من ذلك فقد كان هذا العصر من عصور الازدهار الفكري الذي ظهر أثره من خلال عدد العلماء الذين عاشوا في هذا القرن، والذين برعوا في مختلف جوانب المعرفة الإنسانية([26]). ([1]) ابن النديم: الفهرست ص 164؛ وقارن ياقوت: معجم الأدباء ج 2 ص 350، والخصيب: هو الخصيب بن عبد الحميد صاحب خراج مصر وضياعها زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد ت 193 هـ. انظر: الفهرست ص 164؛ وقارن الجهشيارى: حيث ذكر أن هارون الرشيد ولاّه خراج مصر وضياعها. انظر: الكتاب والوزراء ص 254. ([2]) قال بيكر: ولا نعرف عن سيرته شيئًا إلا القليل، إذ لم يحقق بعد تاريخ مولده ولا تاريخ وفاته. انظر: دائرة المعارف الإسلامية ج 6 ص 1824. وذكر دى جويه في مقدمة تحقيق كتاب فتوح البلدان قال: أما المؤلف فلم نعرف عنه سوى اسمه. انظر مقدمة النسخة العربية ص 3. ([3]) انظر ياقوت الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 530؛ ابن عساكر: تاريخ ج 6 ص 74؛ وقارن جورجى زيدان: تاريخ آداب اللغة العربيةج 2 ص 196. ([4]) ابن عساكر: تاريخ ج 6 ص 75؛ وقارن ياقوت الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 350. ولم تذكر المصادر متى اتصل البلاذري بالمأمون. ([5]) انظر الطبري: تاريخ ج 8 ص 650. ([6]) البلاذري: أنساب ج 1 ص 406. ([7]) وكيع بن الجراح ذكره ابن سعد في الطبقة السابعة من أهل الكوفة، مات في المحرم سنة سبع وتسعين ومائة من خلافة محمد بن هارون، وكان ثقة مأمونًا عالمًا رفيعًا كثير الحديث حجّة. انظر الطبقات: ج 6 ص 548. وذكر الذهبي أنه أحد الأئمة الأعلام. انظر: ميزان ج 4 ص 335. وذكر ابن حجر أنه من كبار التاسعة (أي الطبقة التاسعة) مات في آخر سنة ست أو أول سنة سبع وتسعين وله سبعون سنة. انظر تقريب التهذيب ج 2 ص 255. وكلام ابن حجر هذا يعنى أن وكيع توفي سنة 296 أو 297 هـ، وهذا وهم من الحافظ ابن حجر أو أنّه أراد أن وكيع من الطبقة السابعة بدلاً من التاسعة أو حدث تحريف للفظ. على أى هذه الاحتمالات كان الخطأ في تقريب التهذيب والله أعلم. ([8]) هذا السند صحيح موصول؛ لأن ابن حجر أكد رواية وكيع عن هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدى وهو ثقة فقيه (تهذيب التهذيب ج 11 ص 123)، كما أكد رواية هشام عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي ت 80 هـ وهو صحابي عن عمّه (تقريب ج 1 ص 406)، وأكد رواية عبدالله بن جعفر بن علي بن أبي طالب، وهو صحابي (تهذيب التهذيب ج 5 ص 170). ([9]) ذكر جورجى زيدان قال: ولد في آواخر القرن الثاني الهجري. انظر: تاريخ آداب ج 2 ص 196. ([10]) ابن النديم: الفهرست ص 164؛ ابن العديم: بغية الطلب ج 3 ص 1221. ([11]) لم تذكر المصادر التي ترجمت للبلاذري شيئًا عن حياته خلال فترة خلافة المعتصم ت 227 هـ، والواثق ت 232 هـ. ([12]) الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 530؛ ابن العديم: بغية ج 3 ص 1220؛ الذهبي: سير أعلام ج13ص 162؛ ابن حجر: لسان ج 1 ص 323؛ الكتبي: فوات ج 1 ص 155؛ وقارن بيكر: دائرة المعارف الإسلامية ج 6 ص 1824؛ جورجى زيدان: تاريخ ج 2 ص 196. ومنصب النديم من المناصب المعتمدة في البلاط العباسي في العصر الذهبي لتلك الدولة، وقد شغله عدد من المؤرخين في تلك الفترة. انظر: د. عبد العزيز عبد الغنى: التاريخ تأريخه وتفسيره ص 107؛ وقارن د. سهيل زكار حيث ذكر أن هذه المرتبة لم يصل إليها إلا أكابر الشعراء وعلى رأسهم البحترى. انظر مقدمة تحقيق كتاب أنساب الأشراف ص د. ([13]) الأوحدى: الذخائر والتحف (مخطوط) نقلاً عن د. صلاح الدين المنجد: مقدمة تحقيق كتاب فتوح البلدان ص 8. ([14]) البلاذري: البلدان ج 1 ص 151 – 152. والرواية تتناول إقطاع عبدالملك بن مروان لزوجته. ([15]) ذكر الحموي في معجم الأدباء قال: وحدّث على بن هارون بن المنجم في أماليه عن عمّه قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يحيى البلاذري قال: لما أمر المتوكل إبراهيم بن العباس الصولى أن يكتب فيما كان أمر به من تأخير الخراج حتى يقع في خمسٍ من حزيران، ويقع استفتاحُ الخراج فيه كتب في ذلك كتابه المعروف، وأحسن فيه غاية الإحسان، فدخل عُبيد الله بن يحيى على المتوكل فعرّفه حضور إبراهيم بن العباس وإحضاره الكتاب معه، فأمر بالإذن له، فدخل وأمره بقراءة الكتاب فقرأه، واستحسنه عبيد الله بن يحيى وكل من حضر، قال البلاذري: فدخلني حسد له فقلت: فيه خطأ. قال: فقال المتوكل: في هذا الكتاب الذي قرأه علىّ إبراهيم خطأ؟ قال: قلت: نعم. قال: يا عبيد الله وقفت على ذلك؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما وقفت منه على خطأ، قال: فأقبل إبراهيم بن العباس على الكتاب يتدبره، فلم ير فيه شيئاً فقال: يا أمير المؤمنين الخطأ لا يَعْرى منه الناس، وتدبّرت الكتاب خوفاً من أن أكون قد أغفلت شيئاً وقف عليه أحمد بن يحيى فلم أر ما أنكره، فليعرفنا موضع الخطأ، قال: فقال المتوكل: قل لنا ما هو هذا الخطأ الذي وقفت عليه في هذا الكتاب، قال: فقلت هو شيء لا يعرفه إلا على بن يحيى المنجم ومحمد بن موسى، وذلك أنّه أرّخ الشهر الرومي بالليالي، وأيام الروم قبل لياليها، فهي لا تؤرخ بالليالي وإنما يؤرخ بالليالي شهور العرب؛ لأن لياليها قبل أيامها، بسبب الأهلّة، قال: فقال إبراهيم: صدق يا أمير المؤمنين هذا ما لا علم لي به، ولا أدّعى فيه ما يدّعى قال: فغير تاريخه". انظر الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 532. ([16]) لقد قتل المتوكل سنة 247هـ فخلفه ابنه المنتصر، فلم يلبث إلا ستة شهور حتى قتل سنة 248 هـ فخلفه المستعين. انظر الطبري: تاريخ ج9 ص 230-256. ([17]) ابن العديم: بغية الطلب ج 3 ص 1221؛ الكتبي: فوات الوفيات ج1 ص 156، وذكر جورجى زيدان وبيكر علاقة المستعين الطيبة بالبلاذري.انظر: تاريخ آداب اللغة العربية ج 2 ص 196؛ وقارن دائرة المعارف الإسلامية ج 6 ص 1824؛ وقارن القفطى: إنباه الرواة ج 1 ص 44. ([18]) لقد أمر المعتز بقتل المستعين بعد أربع سنوات من خلافته، فقتل سنة 252هـ، وتولّى المعتز الخلافة أربع سنوات وستة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا، ثم اجتمع الأتراك على خلعه من الخلافة وقتله.انظر الطبري: تاريخ ج9ص362-389؛ وقارن السيوطي: تاريخ ص284-285. ([19]) انظر ابن العديم: بغية الطلب ج 3 ص 1220؛ وقارن جورجى زيدان: تاريخ آداب اللغة ج 2 ص 196؛ بيكر: دائرة المعارف الإسلامية ج 6 ص 1824؛ دى جويه: مقدمة فتوح البلدان ص 3. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى صلة البلاذري بالمتوكل أبي المعتز؛ فكان البلاذري من الذين حضروا إعذار المتوكل لابنه المعتز. ([20]) ياقوت الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 534 – 535. ([21]) ياقوت: معجم الأدباء ج 2 ص 532. كما هجا البلاذري وهب بن سليمان بن وهب أحد جلساء عبيد الله بن خاقان.انظر الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 531 – 533؛ وقارن الكتبي: فوات ج 1 ص 156 – 157. ([22]) الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 535 ([23]) ياقوت الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 533. ([24]) المصدر السابق، ولذا قال عنه ياقوت: وكان يهجو كثيرًا؛ وقارن ابن النديم: الفهرست ج 2 ص 164. ([25]) انظر الطبري: تاريخ ج 9 ص 132 440. ([26]) الجاحظ: الحيوان ج 1 ص 86 – 87.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق