الجمعة، 14 يونيو 2013
ثورة الدعى فى طرابلس الغرب:
ثورة الدعى فى طرابلس الغرب:
الدعى هو: أحمد بن مرزوق بن أبى عمارة المسيلى. كنيته: أبو عمارة، ولقبه: الدعى، نشأ ببجاية وسيمًا، محترفًا بصناعة الخياطة، مغمورًا لا شأن له، وكان يحدّث نفسه بالملك، وزعم أن العارفين يخبرونه بذلك([1]). ثم اغترب وترك بجاية والتحق بصحراء سجلماسة، واختلط بعرب المعقل، وانتمى إلى أهل البيت، وادّعى أنه الفاطمى المنتظر عند أغمار الناس وسوقتهم، " وأنه يحيل المعادن إلى ذهب بالصناعة، فاشتملوا عليه، وتحدثوا بشأنه أيامًا"([2])، ويبدو أنه استعمل كل ما أمكنه من أنواع الشعوذة لاستمالتهم، فلما فضحه العجز عما ادعاه زهدوا فيه لعجزه.
ولما لم تجد معهم حيلة ذهب يتقلّب فى الأرض حتى وصل إلى جهات طرابلس، ونزل على عرب دباب من بنى سليم، وساعده فى أمره اثنان أحدهما: نصير مولى الواثق بن المستنصر، الذى رأى الدعى فتبين فيه شبهًا من الفضل – وهو الفضل بن يحيى الواثق- ابن مولاه فطفق يبكى، ويقبل قدميه، فاتفق معه الدعى على أن يصدقه فى دعوته، فأقبل نصير على الأمراء مناديًا بالسرور بابن مولاه حتى خيل عليهم، وصدقوه، واطمأنوا وبايعوه([3]).وأما الثانى فهو مرغم بن صابر بن عسكر أمير عرب دباب، وأراد مرغم بن صابر أن يكسب ثورته – مع حليفه – صفة المشروعية، فالتفت صوب المشرق ليكفل تأييد السلطان المملوكي المنصور قلاوون، وأرسل مبعوثاً من قبله إلى مصر سنة 681هـ/1282م فى طلب المساعدة من أجل إنجاح ثورة أحد المطالبين بعرش تونس على حساب الخليفة أبى إسحاق إبراهيم بن أبى زكرياء الحفصى (678-682هـ/1279-1283م) ([4]) وكان المنصور غائبا في غزوة ضد التتار، فلما عاد من غزاته وجد رسل مرغم في انتظاره.وتحدث إليه الرسل بأن أميرهم هو "أمير طرابلس الغرب وبلادها وإليه تجتمع الألوف من عربانها " – أو هكذا كتب الكاتب على لسان مرغم؛ لأن مرغما كان فيما يبدو أميا -؛ وعرض الرسل على المنصور أن يقوم مرغم بتجريد حملة على بلاد المغرب باسمه، وهو يسأله إرسال "سنجق شريف يفتح به البلاد"([5]).
وتلقى المنصور الرسل بالإكرام والحفاوة وحملهم هدايا من الخلع الفاخرة والأقمشة وغيرها إلى زعيمهم، واعتذر بأنه مشغول بجهاد التتار، وحثه على القيام غير أنه يبارك أعمال مرغم – إن صح التعبير- وأن مرغما يستطيع باسم السلطان وعزائمه أن يفتح كل مستغلق"([6]).
والظن قوي بأن مرغما هو صاحب الخطة في هذه الثورة وأنه وجد في الدعي عونا وذلك واضح في قول ابن عبد الظاهر: "فاتفق هو وثائر ثار بتلك الجهة يعرف بالفضل بن مخلوع"([7]).
وجمع مرغم بن صابر العرب حول الدعى، ونازلوا طرابلس، واجتمع الحليفان على حصارها، وبها يومئذ محمد بن عيسى الهنتاتى الملقب " بعنق الفضة "، فامتنعت عليهم، ولم يستطيعوا إحراز نصر أمام سور طرابلس المنيع ومقاومة أهلها تحت قيادة الهنتاتى([8]). فرحلوا إلى مجريس الموطنين بزنزور وجهاتها من هوارة فأوقعوا بهم، وجبى منهم الأموال، ومن غيرهم من قبائل البربر فى تلك النواحى مثل " لماية، وزوارة، وزواغة "، وأغرم " نفوسة، وغريان، ومقر من بطون هوارة، وضائع " وفرض عليهم الإتاوات([9]).
ثم زحف الدعى إلى قابس فبايع له عبدالملك بن مكى فى رجب سنة (681 هـ/1282م) طواعية، واستخدم له بنى كعب من سليم فى خدمته([10])، وتوافت إليه بيعة أهل جربة والحامة وقرى نفزاوة، ثم زحف إلى توزر وبلاد قسطيلية فأطاعوه، ثم رجع إلى قفصة فبايع له أهلها، وذكر صاحب تشريف الأيام والعصور أن الدعى أنعم على حليفه مرغم بن صابر بولاية طرابلس، وكتب بها منشورًا مؤرخًا فى السابع والعشرين من ذى القعدة سنة 681 هـ/1283م، وأن يكنيه بأبى الوفاء تقديرًا لوفائه، فدعا للمنصور بن قلاوون على منابرها([11]).
ولما تفاقم أمر الدعى بنواحى طرابلس، ودخل الكثير من أهل الأمصار فى طاعته جهز له السلطان الحفصى إبراهيم بن أبى زكرياء " أبو إسحاق " جيشًا خرج من تونس بقيادة ابنه أبى فارس، وقبل أن يلتقى أبو فارس بالدعى انتقض عليه الجيش، فرجع إلى تونس، وتقدم الدعى إلى القيروان، فاحتلها، وبايعه أهلها. كما بايعه أهل المهدية، وصفاقس، وسوسة، واضطرب أمر تونس، وغادرها أبو إسحاق إلى بجاية فى شوال سنة 681 هـ/1283م، واستولى الدعى " أبو عمارة " على تونس، وتنازل أبو إسحاق عن الحكم لإبنه أبى فارس([12]).
وجمع أبو فارس لملاقاة أبى عمارة فزحف إليه أبو عمارة من تونس فى صفر سنة 682 هـ/1283م، والتقى الجمعان ثالث ربيع الأول من هذه السنة، وأسفرت الحرب عن قتل أبى فارس، وانتهب معسكره، وقتل إخوته، وبعث برؤوسهم إلى تونس فى ثالث ربيع الأول سنة 682هـ/1283م، وأرسل الدّعى محمد بن عيسى بن داود إلى السلطان الحفصى أبى إسحاق ببجاية فقتله آخر ربيع الأول([13]).
وساءت سيرة الدعى، وكثر ظلمه وجوره، وقد بنى أمره على التجبر والقتل، وقد شكى إليه العرب ذلك من يوم دخوله، فقبض على ثلاثة منهم وقتلهم وصلبهم، وسرّح فيهم شيخ الموحدين عبدالحق بن تافراكين، وأوعز إليه بالإثخان فيهم، فقبض على مشايخ بنى علاق، وأودع سجونه منهم نيفًا وثمانين([14]).
ولما سمع الناس بخبر الأمير أبى حفص، وكان قد تخلص من المعركة، ونجا إلى قلعة سنان معقل هوارة، دخلوا عليه، والتفوا حوله، وأعطوه بيعتهم فى ربيع سنة 683هـ/1284م، فلما علم الدّعى شك فى رجاله، فامتحنهم، وأخذ أموالهم ثم قتلهم، فتوجع لهم الناس، ومقتوا الدعى، واضطرب أمره، فخرج يريد قتال الأمير الحفصى، فأرجف بالدعي أهل معسكره، ورجع منهزمًا، ودخلت البلاد فى طاعة السلطان أبى حفص، ونهض إلى تونس، وطالت بينهم الحرب أيامًا والناس فى كل يوم يستوضحون خبأ الدعى، ومكره إلى أن تبرأوا منه، وأسلموه ودخل السلطان البلد فى ربيع الآخر سنة 683هـ/1284م، وأخذ الدعى إلى السلطان، فأحضر له الملأ ووبخه، وساء له فاعترف بادّعائه فأمر بقتله([15]).
ولم تهنأ طرابلس بالراحة شأن المناطق النائية عن مركز الخلافة الحفصية، ففى سنة 687هـ/1288م تحرك الأمير أبو زكرياء بن إسحاق على عمه الأمير الحفصى بجيش كبير دار به فى بلاد الجريد وجنى الأموال ووصل إلى طرابلس ولكن حركته لم تنجح([16]).
([1]) ابن خلدون: العبر ج 6 ص 388، ابن الشماع: الأدلة البينة ص79.
([2]) ابن خلدون: المصدر السابق، ابن الشماع: الأدلة البينة ص79.
([3]) ابن خلدون: العبر ج 6 ص 388. ابن القنفذ: الفارسية ص141(وذكر أن الفضل قد قتل بتونس)؛ ابن الشماع: الأدلة البينة ص74، الزركشى: تاريخ الدولتين ص45؛ ابن أبى دينار: المؤنس ص139، وقد ذكر ابن عبد الظاهر في كتابه تشريف الأيام والعصور، تحقيق مراد كامل، طبعة وزارة الثقافة والارشاد القومي، القاهرة، الطبعة الأولي، 1961م، أن الثائر هو الفضل بن المخلوع من أولاد أبي زكرياء يحيي بن صاحب تونس ولم يذكر أنه الدعي. ص45.
([4]) ابن عبدالظاهر: تشريف ص44-46، بيبرس المنصورى: زبدة الفكرة ج9ص227.
([5]) ابن عبد الظاهر: تشريف الأيام والعصور ص 45.
([6]) المصدر السابق.
([7]) ابن عبد الظاهر: تشريف الأيام والعصور ص 45.
([8]) ابن خلدون: المصدر السابق؛ ابن القنفذ: الفارسية ص140، وقارن الزركشى: تاريخ ص 45.
([9]) المصدر السابق.
([10]) ابن خلدون: العبر ج 6 ص 388؛ ابن القنفذ: الفارسية ص141،ابن الشماع: الأدلة البينة ص77، وقارن الزركشى: تاريخ ص 45. كانت رياسة بنى كعب فى بنى شيحة لعبد الرحمن بن شيحة.
([11]) ابن عبد الظاهر: تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور ص 46.
([12]) ابن خلدون: العبر ج 6 ص 388 – 389؛ ابن القنفذ: الفارسية ص143؛ ابن الشماع: الأدلة البينة ص78، وقارن الزركشى: تاريخ الدولتين ص 46، النائب الأنصارى: المنهل ج 1 ص 153. وذكر صاحب تشريف الأيام أن البلاد فتحت باسم السلطان قلاوون. انظر ابن عبد الظاهرص 45.
([13]) ابن خلدون: العبر ج 6 ص 390؛ ابن الشماع: الأدلة البينة ص78، وقارن الزركشى: تاريخ الدولتين ص46.
([14]) ابن خلدون: المصدر السابق ص 391؛ ابن القنفذ: الفارسية ص144؛ ابن الشماع: الأدلة البينة ص78، وقارن الزركشى: تاريخ الدولتين ص47.
([15]) ابن خلدون: المصدر السابق ص 392، ابن القنفذ: الفارسية ص145؛ ابن الشماع: الأدلة البينة ص61، 80؛ وقارن الزركشى: تاريخ الدولتين ص50؛ وابن أبى دينار: المؤنس ص 139-140.
([16]) ابن القنفذ: الفارسية ص149، ولم أعثر فى غيره من المصادر عن تفاصيل هذه الحركة.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق