الجمعة، 14 يونيو 2013
حياة البلاذري العلمية:
حياة البلاذري العلمية:
تدلّ مصادر البلاذري في رواياته أنه تتلمذ على كبار المحدّثين والمؤرخين والنسّابة والأدباء في عصره. وأن ذلك كان منذ فترة مبكرة من حياة البلاذري؛ لأنه روى عن وكيع بن الجرّاح الكوفي ت 197 هـ، فقال: "حدثنا وكيع" وروى عن الواقدي ت 207هـ، فقال: "حدثني الواقدي" وغيرهم. وهذا يعنىأن البلاذري اتجه إلى طلب العلم منذ فترة مبكرة من حياته في بغداد.
وتدل أخبار البلاذري أنه كان كثير الرحلات([1]) لطلب العلم، فلقد ذكر ابن عساكر([2]) أن البلاذري سمع بدمشق وحمص وأنطاكية، وذكر بعض الذين سمع منهم البلاذري في هذه البلاد، وهذا يعنى أن البلاذري سافر إليها وتلقى العلم على أيدي مشايخها، وهذا هو الواضح مما ذكره ابن عساكر، وأنه زار هذه المراكز العلمية طلباً للعلم، كما كان طابع عصره، مثله في ذلك مثل غيره من المؤرخين والعلماء.
وتدل مصادر رواياته أنه زار مدينة الربذة، وزار مدن العراق (الكوفة – البصرة – واسط)، كما أخذ عن شيوخ حجازيين، وبسبب هذه الرحلات المتعددة للبلاذري تعددت مصادره بين (عراقية – شامية – حجازية – مصرية)، ولم يكن الهدف من وراء هذه الرحلات على ما يبدو إلا غرض الدراسة، وجمع أكثر ما يمكن جمعه من المصادر والمعلومات لسدّ حاجة ثقافية، كما تدلّ رواياته على اطّلاعه على مواقع الأحداث ووصفها أحيانًا.
أ – ثقافة البلاذري:
إن تنوع مصادر البلاذري التي تجاوزت المائة لدليل على أن البلاذري كان صاحب ثقافة واسعة([3])، وعلى ضخامة ما تلقاه من الأخبارالتي تؤهّله إلى أن يحظى بهذه المنزلة، فكان كاتبًا، أديبًا، شاعرًا، راوية للأخبار، نسّابة. وهذا واضح جليٌّ في المادة العلمية التي خلّفها لنا البلاذري في كتاب البلدان وفتوحها وأحكامها، وكتاب أنساب الأشراف.
1- رواية النسب والأخبار:
إن كتب البلاذري أصدق دليل على رواية الرجل للأخبار واهتمامه بها، وقد وصفه بذلك غير واحد ممن ترجم له؛ فقال ياقوت الحموي: "وكان أحمد بن يحيى بن جابر عالمًا، فاضلاً، شاعرًا، راوية، نسّابة متقناً"([4])، وقال الحافظ ابن عساكر: "كان أديبًا راوية له كتب جياد"([5])، وقال ابن العديم: كاتب شاعر مجيد راوية الأخبار والآداب"([6]).وقال الذهبي: "حافظ أخباري علاّمة،أدرك عفان بن مسلم ومن بعده من طبقة أبي داود صاحب السنن"([7]).
2- الأدب والشعر:
إن المدقـق فـي المصـادر التى ترجمت للبلاذري يجد أنها اتفقـت على شاعريـة البلاذري وأدبـه([8]). بـل إن أكبـر ترجمـة للبلاذري وردت في تراجـم الأدبـاء([9]). كما أفادت أخباره أنه لم يقل الشعر في غرض واحد من أغراض الشعر، بل تعددت أغراضه، فذكرت المصادر أنه قال شعر المديح([10])، بل إنه بذّ فيه أقرانه، كما قال شعر الهجاء([11])، والزهد والتقوى([12])، والرثاء([13])، والحكمة([14])، مما يدل على ملكة شعرية جيدة([15]).وذكر الذهبي أنه "أحد البلغاء"([16])، وقال: "العلامة الأديب المصنف"([17])، وقال: "وكان بليغًا شاعرًا محسنًا"([18])، ولقد ذكر ابن النديم" أنه كان شاعرًا راوية"([19]). كما ذكر أن له خمسين ورقة شعر وأنه كان بليغًا، شاعرًا محسنًا([20]) وعرّفه حاجي خليفة بقوله: "البلاذري: الشاعر"([21]). كما ورد أنه نقل كتاب عهد أردشير من الفارسية إلى العربية شعرًا([22]).
ولا شك أن تمكن البلاذري من الشعر، وإقباله على نظمه، كان له أثر واضح في اعتماده عليه كمصدر مهم لتأييد الأخبار، ولأثر الشعر في الإيهام – أحياناً – بمصداقية الخبر؛ لأن الرواة استخدموا الشعر كدليل على صحة الحدث مع أن انتحال الراوي للخبر لا يستغرب معه انتحاله للشعر أيضًا ونسبته إلى شخص ما، ولا يعني هذا أن نغفل الأدب أو مصادر الأدب من الدراسة التاريخية، ولكن لابد من النظر إليها في ضوء المصادر التاريخية والأخبار الصحيحة.
والبلاذري أورد شعرًا كثيرًا في رواياته منها ما جاء في الروايات التي ينقلها عن آخرين منسوبة إلى الصحابة، أو الذي يسجّله هو للدلالة على صحة الخبر. حتى جاء عنده أشعار كثيرة في كتابيه البلدان والأنساب لشعراء مشهورين مع أنها ليست في دواوينهم المطبوعة([23]). وهذا لا يعنى الشك فيما أورده البلاذري بقدر ما أؤكد على تفرّده برواية هذه الأشعار([24]) أحيانًا.
3- الكتابة:
ذكرت المصادر أن جابر بن داود جد البلاذري كان كاتبًا للخصيب أمير مصر([25])، وقد عرّف ابن عساكر([26]) وابن العديم والذهبي([27]) وغيرهم([28]) البلاذري بقولهم: "الكاتب" وإضافة لقب الكاتب إلى البلاذري يدل على اشتغاله بالكتابة، ويبدو أنه ورثها عن جده كما كان شأن هذه الأعمال، وهي تعطينا فكرة أخرى، وهى أن أسرة البلاذري كانت معروفة بالاشتغال في دواوين الدولة، وخاصة ديوان الخراج الذي كان يعمل فيه جده، فلا يستبعد أن يكون البلاذري قد عمل في ديوان الخراج فترة من الزمن([29]) وقد استشاره الخليفة العباسي المتوكل في أمر من أمورالخراج، كما أنه اهتم بأمر الخراج في كتابه البلدان، فكان يتحدث عنه في كثير من البلدان التي تعرض للحديث عنها، وعقد له فصلاً في نهاية الكتاب. كما ألف تلميذه قدامة بن جعفر ت نحو329هـ كتابًا عن الخراج.
4- معرفة اللغة الفارسية والرومية:
ذكرت المصادر معرفة البلاذري باللغة الفارسية([30])، وأنه كان أحد النقلة من اللسان الفارسي إلى اللسان العربي([31])، فترجم كتاب عهد أردشير([32])، وهو بذلك من الذين أسهموا في الترجمة من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية([33]).
كما يبدو أن البلاذري أحاط بطرف من ثقافة الروم، وهذا واضح من حوار البلاذري مع الخليفة العباسي المتوكل على الله في شأن التاريخ في بلاد الروم([34]).
البلاذري في لسان الميزان
تجدر الإشارة إلى أن البلاذري لم يُقل فيه جرح بالرغم أن ابن حجر ذكره في لسان الميزان وهو كتاب للضعفاء، إلا أن ما أورده ابن حجر يفيد الثقة بالرجل فقال: "صاحب التصانيف، وقال: وكان عالمًا فاضلاً نسّابة متقنًا"([35])، وقد ذكرت كلام الذهبي عنه وأنه قال: "صاحب التاريخ المشهور من طبقة أبي داود السجستاني، حافظ، أخباري، علامة"([36])، وقد ذكر الذهبي في مقدمة كتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال، أن من أعلي العبارات في الرواة المقبولين أن يقول "حافظ"([37])، وقد ذكره الشريف المرتضى في كتابه الشافي فقال: "وقد روي أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، وحاله في الثقة عند العامة والبعد عن مقارنة الشيعة والضبط لما يرويه معروف"([38])، وقال في موضع آخر: "وقد روى البلاذري في تاريخه، وهو معروف الثقة والضبط وبريء من ممالأة الشيعة ومقارناتها أن..."([39]).
([1]) ذكر بيكر أن البلاذري طلب العلم في دمشق، وفي حمص ردحًا من الزمن، ودرس أيضًا بالعراق على شيوخ منهم ابن سعد. انظر دائرة المعارف الإسلامية ج 6 ص 1824.
([2]) ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق ج 6 ص 74 – 75.
([3]) لقد فسّر أحد الباحثين المعاصرين اشتهار البلاذري بثقافة موسوعية بأن شأنه في ذلك شأن أعلام المعتزلة، وأنه أخفي ميوله المذهبية الاعتزالية تقية؛ لأن مذهب أهل السنة قد أعيد إحياؤه منذ خلافة المتوكل. انظر د. محمود إسماعيل: سوسيولوجيا الفكر الإسلامي ص288. ولا أدرى من أي مصدر تاريخي حصل على هذا القول.
([4]) الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 531؛ وقارن الصفدي: الوافي ج 8 ص 240.
([5]) ابن عساكر: تاريخ ج 6 ص 75.
([6]) ابن العديم: بغية الطلب ج 3 ص 1219.
(5) الذهبي: سير أعلام ج16ص36؛ تذكرة الحفاظ ج2ص892.
([8]) ياقوت: معجم الأدباءج 2 ص 534؛ ابن حجر: لسان ج 1 ص 322 – 323؛ حاجي خليفة: كشف الظنون ج 2 ص 1402؛ ابن العديم: بغية الطلب ج 3 ص 1219 – 1222، الذهبي: سير أعلام ج 13 ص 162 – 163؛ العبر ج 2 ص 249؛ الكتبي: فوات الوافيات ج 1 ص 155 – 157؛ ابن عساكر: تاريخ ج 6 ص 74 – 75؛ عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين ص 201 – 202؛ جورجى زيدان: تاريخ آداب اللغة ج 2 ص 196.
([9]) انظر ياقوت الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 530 – 535، وله ترجمة في معجم الشعراء للمرزبانى ولكنها لم تصلنا.
([10]) انظر ابن عساكر: تاريخ ج 6 ص 75 – 76؛ الذهبي: سير أعلام ج 13 ص 162 – 163؛ الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 534.
([11]) انظر ياقوت: معجم الأدباءج 2 ص530 – 535. وقال في ذلك "وكان مع ذلك كثير الهجاء بذيء اللسان آخذًا لأعراض الناس"؛ وقارن الكتبي: فوات ج 1 ص 155 – 156؛ ابن حجر: لسان ج 1 ص 323.
([12]) ابن عساكر: ج 6 ص 75؛ وقارن ياقوت: معجم الأدباء ج 2 ص 533. وقال ابن عساكر بإسناده: "قال أخبرني أحمد بن يحيى البلاذري قال: قال لي محمود الوراق قل من الشعر ما يبقى ذكره ويزول عنك إثمه فقلت000" وأورد له أبياتًا في الزهد.
([13]) ذكر أبو بكر الصولي أشعار البلاذري في رثاء الشاعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي ت231 هـ. انظر: أبو بكر الصولى: أخبار أبي تمام ص 276 – 277.
([14]) انظر ابن عساكر: تاريخ ج 6 ص 75؛ وقارن الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 534؛ ابن العديم: بغية الطلب ج 3 ص 1222.
([15]) و يمكن إدراك مواهب البلاذري الشعرية من خلال نقاشه مع شيخه ابن الأعرابي، والذي ذكره أبو أحمد العسكري في كتابه المصون في الأدب فقال ابن الأعرابي (أي للبلاذري): أنت شاعر، فقلت (أي البلاذري) شاعر كاتب منهما علمت أروه كما رويت "نقب الخف للسرى" انظر أبو أحمد العسكري: المصون في الأدب. تحقيق عبدالسلام هارون ص 10 – 11.
(9 ) الذهبي: تاريخ ج2ص289.
(10) الذهبي: سير أعلام ج13ص162.
(11) السابق:ج 13ص163.
([19]) الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 351.
([20]) ابن النديم: الفهرست ص 164؛ وقارن ابن العديم: بغية الطلب ج 3 ص 1219؛ الذهبي: سير أعلام ج 13 ص 162 – 163؛ عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين 201 – 202.
([21]) حاجي خليفة: كشف الظنون ج 2 ص 1402.
([22]) ابن النديم: الفهرست ص 164.
([23]) وهى أبيات كثيرة في كتابيّ البلاذري لشعراء مختلفين مثل الفرزدق (انظر البلدان ص 336)، وأبي الأسود الدؤلى (انظر البلدان ص 401)، وحسان بن ثابت (انظر: أنساب ج 1 ص 237). وغيرهم
([24]) لقد استدرك محقق ديوان حسان بن ثابت بيتًا من رواية البلاذري الواردة في كتاب البلدان ص 23.
([25]) ابن النديم: الفهرست ص 125؛ الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 531؛ الكتبي: فوات ج 1 ص 155؛ ابن حجر: لسان ج 2 ص 27؛ بيكر: دائرة المعارف الإسلامية ج 6 ص 1824.
([26]) ابن عساكر: تاريخ ج 6 ص 74. قال: "الكاتب صاحب التاريخ".
(8) الذهبي: سير أعلام ج13ص162.
([28]) ابن العديم: بغية الطلب ج 3 ص 1219، قال: "الكاتب، كاتب، أديب، شاعر، مصنّف "؛ وقارن المزي: تهذيب الكمال، قال: أحمد بن يحيى البلاذري الكاتب. (ترجمة رقم 5237).
([29]) انظر إحسان العمد: البلاذري ص 168. وذكر دى جويه في ترجمته للبلاذري قال: "وقيل إنه وظف بأحد الدواوين لبعض الخلفاء، ولكنه لم يتعين نوع الوظيفة التي كان يشغلها" 0انظر: مقدمة تحقيق فتوح البلدان. ولا أدرى من أين جاء دى جويه بهذا الكلام بالرغم من ميلى إلى ذلك، ولكن أعترف بأن المصادر لم تذكر شيئا عنه. وقارن.HILL,D ,R ,The termination of Hostilities,In, EarlyArab conquests,p.26
([30]) ابن النديم: الفهرست ص 113؛ ياقوت: معجم الأدباء ج 2 ص 534؛ الكتبي: فوات ج 1 ص 157؛ بيكر: دائرة المعارف ج 6 ص 1824؛ جورجى زيدان: تاريخ آداب ج 2 ص 196.
([31]) ابن حجر: لسان ج 1 ص 323؛ ابن النديم: الفهرست ص 113؛ عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين ص 201 – 202.
([32]) ابن النديم: الفهرست ص 1464.
([33]) لم تشر المصادر القديمة إلى سبب معرفة البلاذري باللغة الفارسية، ولكن الباحثين المحدثين أثاروا هذه القضية، فأرجع بعضهم ذلك إلى احتمال أن يكون البلاذري من أصل فارسى ونفي البعض ذلك. انظر 0 بيكر: دائرة المعارف ج 6 ص 1824؛ أحمد الحوفي: تيارات ثقافية بين العرب والفرس ص 246؛ بروكلمان: تاريخ الأدب العربي ج 3 ص 43؛ محمد المشهدانى: موارد البلاذري عن الأسرة الأموية ج 1 ص 45.
([34]) ياقوت الحموي: معجم الأدباء ج 2 ص 532.
(7) ابن حجر: لسان الميزان ج1ص322-323.وهناك من ضعّف البلاذري بسبب ورود ترجمته في لسان الميزان.انظر د.أكرم العمري: السيرة النبوية ج1ص67، وفي رأيي أن ورود ترجمة البلاذري في اللسان يرجع إلى نظرة المحدّثين له، وبالرغم أن ابن حجر أورده في تراجم الضعفاء إلا أنه أكثر الأخذ عنه في كتاب الإصابة، وهذا بلا شك يشير إلي توثيق ابن حجر لروايته في الأخبار والأنساب.
(1) الذهبي: تذكرة الحفاظ ج2ص892.
(2) الذهبي: ميزان ج1ص4.
(3) الشريف المرتضي: الشافي ص207.
(4) السابق ص246.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق