الجمعة، 14 يونيو 2013
دخول طرابلس الغرب تحت حكم الناصر الموحدى:
ولما بلغت جيوش الناصر مدينة قابس قدم عليه وجوه أهل طرابلس، ولندع كاتبه محمد بن عياش يحدثنا عن هذه الوفادة فيقول:" إذا بوجوه قومها يرفعهم التيار المتدافع، ويقدمهم الموج الخافض الدافع، ويلوح للهدى على أسارير كبيرهم وصغيرهم نور ساطع، ويجمع بيننا وبينهم الأهطاع إلي الحق وهو سبب جامع، فاعلموا أن الطاعة لم تفارق سرائرهم وأن النور الذي فاض على إفريقية لم تحرمه أبصارهم ولا بصائرهم، وإنهم وإن بعد مزارهم، وكادت تكون من ديار مصر دارهم، فما زالت تمتد إلى هذا اليوم آمالهم ونواظرهم، وعرفوا بأن الشقي الذي كان عندهم بات مذموما مدحورا، وأنهم لم يفارقوا مدينتهم حتى جعلوا بينهم وبينه خندقا وسورا، وحتى أقاموا على منبرهم دعوة الحق التى وعدها الله في المشرق والمغرب علوا وظهورا، فكرمت وفادتهم، وبانت لهم سعادتهم،وأعرب عن حال غائبهم وشاهدهم غيبهم وشهادتهم وأمروا بطالب من الموحدين وقطع من الأسطول..."([1])، أما هذا الطالب الذي ذهب أميراً عليهم فهو عبد الله بن إبراهيم بن جامع؛ ومن بعد رجع الناصر إلي تونس، فأقام فيها حتى سنة 603هـ/1206م ثم جهز جيشا بقيادة أخيه السيد أبي إسحاق لتتبع أتباع ابن غانية فشارف الجند ضواحى طرابلس واستأصلوا بنى دمر ومطماطة وما والاها ووقفوا على آخر جبال نفوسة، وجاوزوا عمرانها، وشارفوا أرض سويقة ابن مثكود([2]) وهى آخر منطقة وصلت إليها جيوش الموحدين ثم رجعوا إلى الخليفة بتونس.
وقبل أن يرجع الناصر إلى مقر دولته اطمأن إلى استقرار أمر إفريقية، وقد حضر إليه العربان يطلبون العفو عما سلفت به الأيدي المتسرعة إلى سل السيوف، وجاء في وفد رياح الرجل الذي عرف فيه الموحدون عدوا قديما وهو أبو سرحان مسعود بن سلطان بن زمام "يرسف في قيد هرمه" يطلب العفو لنفسه ولقومه([3])، ووجد لدى الناصر تسامحا وعفا الله عما سلف.
وقرر الخليفة قبل أن يعود إلى مراكش أن يعيّن على جميع بلاد إفريقية أحد كبار القادة ليقوم بحماية البلاد والدفاع عنها من غزوات ابن غانية، فوقع اختياره على الشيخ أبى محمد عبد الواحد بن أبى حفص، فعقد له على ذلك سنة ثلاث وستمائة، وعاد إلى مراكش فى شوال سنة 603 هـ/
1207 م([4]). وهذا السبب الرئيس فى نشأة الدولة الحفصية.
وعندما أيقن ابن غانية بعودة الخليفة الناصر إلى مراكش، رجع من صحراء برقة إلى نواحى طرابلس لمحاربة الموحدين، وفيها جمع أتباعه من العرب من الدواودة من رياح ومن غيرهم من بنى هلال وبنى سليم، وأوفد الدواودة يومئذ محمد بن مسعود بن سلطان، فخرج إليهم عبدالواحد بن أبى حفص ومعه بنو عوف من بنى سليم، وكانوا تحيزوا إلى الموحدين، فالتقوا فى سنة 604 هـ/1207م بشبروا من نواحى تبسة، فانهزمت جموع ابن غانية، ولجأ إلى جهة طرابلس ولاذ بصحرائها ([5]).
والتحق بابن غانية فلول الملثمين، وأوليائه من العرب والغز، ونهض بهم إلى المغرب الأوسط، فاستولى بهم على سجلماسة وتلمسان، وامتلأت أيدى أتباعه من الغنائم والأموال، وأخذ العرب يعيثون فسادًا فى تلك الجهات، وفى طريق رجوعه اعترضه الشيخ أبو محمد فى جموع من الموحدين، وألحق به الهزيمة، واسترد منه جميع الغنائم التى جمعها ابن غانية فى غزواته السابقة، وفرّ ابن غانية إلى جبال طرابلس([6]).
ولم يلبث ابن غانية أن عقد فى جبال طرابلس اجتماعًا مع طوائف العرب من رياح وعوف ومن معهم من قبائل البربر، وعقدوا عزمهم على دخول إفريقية([7]). ويبدو أنهم قد أحسوا أن والى إفريقية يحول دون تقدمهم إلى إفريقية والمغرب الأوسط، فأجمعوا على قتال والى إفريقية لاستخلاص البلاد منه، وبلغ ذلك الشيخ أبا محمد فسار إليهم بقواته عند جبل نفوسة ليحول دون تقدمهم إلى إفريقية.
ونشب القتال بين الطرفين فى سنة 606 هـ/1209م، وحلت الهزيمة بابن غانية وأنصاره، ولاذ هو بالفرار مع بعض رجاله عند دخول الليل، فاستولى الموحدون على معسكر ابن غانية بما فيه من المتاع والسلاح، فبلغت مغانم الموحدين ثمانية عشر ألفًا، فكان ذلك مما أوهن من شدته ووطّى من بأسه([8]).
وهلك فى هذه الموقعة عدد كبير من رجال ابن غانية وقادته وشيوخ أنصاره من العرب، فكان من بينهم محمد بن مسعود شيخ الدواودة، وابن عمـه حركات ابن أبى الشيخ، وشيخ بنى قرة سماد بن نخيل، وشيخ مغراوة، و محمد بن الغازى بن غانية، وغيرهم كثير من أنجاد بنى رياح وبنى هلال([9]).
وفى سنة 607هـ/1210م انتهز أهل جبل نفوسة هزيمة ابن غانية فثاروا على ابن عصفور كاتب ابن غانية وعامله على جباية الأموال، فقتلوا ولديه([10])، ولما بلغ ذلك محمد بن عبد السلام والى طرابلس من قِبل الموحدين، سار بقواته، وأعاد جبل نفوسة إلى طاعة الموحدين، ثم اقتحم قصرًا لابن غانية بالجبل، وجد فيه كمية وفيرة من الذخائر والمتاع والأموال([11])، وفى هذا الخبر إشارة إلى تبعية جبل نفوسة وطرابلس للموحدين تحت إمرة وال واحد هو محمد بن عبد السلام، مما كان له أثر كبير فى استقرار إقليم طرابلس خلال هذه الفترة، وهذه هى أول محاولة جادة لسعى الموحدين للحفاظ على تبعية إقليم طرابلس لهم؛ لأن المحاولات العسكرية الجادة، لضم أقاليم الدولة والحفاظ على تبعيتها لم تكن تتجاوز قابس قبل ذلك، وأن الحرص الأكيد لتبعية طرابلس للموحدين كان من جانب أهل طرابلس رغبة منهم فى الاحتماء بظل الموحدين، عسى أن تحجم الأعراب عنهم لذلك، والحقيقة إن بُعْد طرابلس عن عاصمة الموحدين كان أحد أسباب ذلك، فلما اقتربت منهم قوة الحفصيين تغير الوضع قليلا.
وفي إطار حماية طرابلس من المغامرين استطاع الموحدون تحصينها ففى شعبان من سنة 614 هـ/1217م، زار أبو محمد عبد الواحد بن أبى حفص والى إفريقية مدينة طرابلس، وأمر بأن يبنى حول سورها فصيل أقصر منه، وقد سمّى هذا الفصيل بالستارة([12]).
([1]) ليفي بروفنسال: رسائل موحدية ص 254ـ 255.
([2]) ابن خلدون: العبر ج 6 ص248؛ الزركشي: تاريخ الدولتين ص 12؛ ابن عذارى: البيان ج3ص 224.
([3]) ليفي بروفنسال: رسائل موحدية ص 258ـ 259، ابن عذارى: البيان ج 3 ص 223 – 224؛ الزركشى: تاريخ ص 18.
Alfred Bell:Op.Cit، P60.
([4]) ابن عذارى: البيان (قسم الموحدين) ص248-249،ص291؛ ابن أبى زرع: روض القرطاس ص233(وذكر أن ذلك كان سنة 502هـ) ؛ النويرى: نهاية ج24ص342؛ ابن خلدون: العبر ج 6 ص 232؛ ابن القنفذ: الفارسية ص 105، ابن الشماع: الأدلة البينة ص49، الزركشى: المصدر السابق؛ ابن أبى دينار: المؤنس ص122، 131.
([5]) ابن عذارى: البيان (قسم الموحدين) ص 253، ابن خلدون: المصدر السابق؛ الزركشى: تاريخ ص 19.
([6]) ابن خلدون: العبر ج 6 ص 232.
([7]) ابن خلدون: المصدر السابق؛ النائب: المنهل ج 1 ص 243.
([8]) ابن خلدون: العبر ج 6 ص 233؛ النائب: المنهل: ج 1 ص 233؛ محمد عبدالله عنان: دولة الإسلام، ج 2 ص 274 – 275،وقارن:
Alfred Bell: Op.Cit،P.151-252.
([9]) ابن عذارى: البيان (قسم الموحدين) ص 255، ابن خلدون: العبر ج 6 ص 232؛ محمد عبدالله عنان: دولة الإسلام ج 2 ص 274 – 275.
([10]) ابن خلدون: المصدر السابق ج 6 ص 233؛ وقارن:
Alfred Bell: Op.Cit،P152.
([11]) ابن عذارى: البيان المغرب ج 3 ص 235، البيان (قسم الموحدين) ص 257.
([12]) التيجانى: الرحلة ص 240.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق