السَّابِعُ: أَنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ الْفَصَاحَةُ وَغَرَابَةُ الْأُسْلُوبِ وَالسَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مُقْتَرِنًا بِالتَّحَدِّي وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا سَبَقَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وَالْمُرَادُ: بِمِثْلِ نَظْمِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْتُوا بسورة من مثله} وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي {مِنْ مثله} عائد على الله ضعيف بقوله: {بعشر سور مثله} وَالسِّيَاقُ وَاحِدٌ
الثَّامِنُ: مَا فِيهِ مِنَ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّرْصِيفِ وَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ جَمِيعِ وُجُوهِ النَّظْمِ الْمُعْتَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمُبَايِنٌ لِأَسَالِيبِ خِطَابَاتِهِمْ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَلِهَذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ مُعَارَضَتُهُ
قَالَ: وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ الَّتِي ادَّعَوْهَا فِي الشِّعْرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَخْرُقُ الْعَادَةَ بَلْ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّدْرِيبِ وَالتَّصَنُّعِ لَهُ كَقَوْلِ الشِّعْرِ وَرَصْفِ الْخُطَبِ وَصِنَاعَةِ الرِّسَالَةِ وَالْحِذْقِ فِي الْبَلَاغَةِ وَلَهُ طَرِيقٌ يُسْلَكُ فَأَمَّا شَأْوُ نَظْمِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ لَهُ مِثَالٌ يُحْتَذَى عَلَيْهِ وَلَا إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ مِثْلِهِ اتِّفَاقًا
قَالَ: وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ أَظْهَرُ وَفِي بَعْضٍ أَدَقُّ وَأَغْمَضُ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ قِيلَ مَا الَّذِي وَقَعَ التَّحَدِّي بِهِ؟ أَهُوَ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ؟ أَوِ الْكَلَامُ الْقَائِمُ بِالذَّاتِ؟ أَوْ غَيْرُهُ؟ قُلْنَا: الَّذِي تَحَدَّاهُمْ بِهِ أَنْ يَأْتُوا عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ نَظْمُ الْقُرْآنِ مَنْظُومَةً حِكَمُهَا مُتَتَابِعُهَا كَتَتَابُعِهَا مُطَّرِدَةٌ كَاطِّرَادِهَا وَلَمْ يَتَحَدَّهُمْ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِالْكَلَامِ الْقَدِيمِ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: لَيْسَ الْإِعْجَازُ الْمُتَحَدَّى بِهِ إِلَّا فِي النَّظْمِ لَا فِي الْمَفْهُومِ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ


لَمْ يُمْكِنِ الْإِحَاطَةُ بِهِ وَلَا الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُرَادِ مِنْهُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُتَحَدَّى بِمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ إِذْ هُوَ يَسَعُ كُلَّ شَيْءٍ فَأَيُّ شَيْءٍ قُوبِلَ بِهِ ادَّعَى أَنَّهُ غَيْرُ الْمُرَادِ وَيَتَسَلْسَلُ
التَّاسِعُ: أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي الْمِفْتَاحِ وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ الْإِعْجَازِ عَجِيبٌ يُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ كَاسْتِقَامَةِ الْوَزْنِ تُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا وَكَالْمَلَاحَةِ وَكَمَا يُدْرَكُ طِيبُ النَّغَمِ الْعَارِضِ لِهَذَا الصَّوْتِ وَلَا طَرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِهِ لِغَيْرِ ذَوِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ إِلَّا بِإِتْقَانِ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالتَّمَرُّنِ فِيهِمَا وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ فِي الْبَصَائِرِ: لَمْ أَسْمَعْ كَلَامًا أَلْصَقَ بِالْقَلْبِ وَأَعْلَقَ بِالنَّفْسِ مِنْ فَصْلٍ تَكَلَّمَ بِهِ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيُّ وَكَانَ بَحْرًا فِي الْعِلْمِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَوْضِعِ الْإِعْجَازِ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا حَيْفٌ عَلَى الْمُفْتَى وَذَلِكَ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِقَوْلِكَ مَا مَوْضِعُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِنْسَانِ بَلْ مَتَى أَشَرْتَ إِلَى جُمْلَتِهِ فَقَدْ حَقَّقْتَهُ وَدَلَّلْتَ عَلَى ذَاتِهِ كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لِشَرَفِهِ لَا يُشَارُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا وَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى آيَةً فِي نَفْسِهِ وَمَعْجَزَةً لِمُحَاوِلِهِ وَهُدًى لِقَائِلِهِ وَلَيْسَ فِي طَاقَةِ الْبَشَرِ الْإِحَاطَةُ بِأَغْرَاضِ اللَّهِ فِي كَلَامِهِ وَأَسْرَارِهِ فِي كِتَابِهِ فَلِذَلِكَ حَارَتِ الْعُقُولُ وَتَاهَتِ الْبَصَائِرُ عِنْدَهُ